أعرف مسبقا أن هذه الكلمات ستثير اشمئزاز الكثيرين منّي، خاصّة لأنها تحوي معان وألفاظ كفر لا يجوز النبس بها في “مجتمعنا”. أعرف مسبقا أن تدوينة كهذه من الممكن أن تسبّب خلاف بيني وبين بعض الأصدقاء، وأعرف مسبقا أن المعلقّين المثقّفين – خاصّة باحثي علوم النّغمات والهارموني- لن يرحموني بتعليقاتهم.
***
لكلّ واحد منّا ذاكرة ما ترتبط باسم بالرحابنة، أما أنا فأتذكر سيارتنا القديمة التي كسرت بها سنّي في صغري، وجبال الرّامة في طريقنا إلى البقيعة لزيارة الأقرباء – ترافقها أنغام “يا جبل البعيد” تحديدًا. مازلت أجهل إن كان توقيت بدايتها الدقيق عند ظهور جبال الرّامة محض صدفة. لم أعرف الرّامة حينها، لم تكن بالنسبة لي سوى محطّة عابره تساعدني على تقدير الوقت المتبقّي للوصول إلى درّاجتي الهوائيّة من نوع “بي، إم، إكس”.ولكني أستطيع أن أصرّح بفخر أنني مثقّف لأنني ترعرعت على صوت فيروز مثل معظم المثقّفين في أيّامنا.
***
أما ابنهم زياد فلم أصادفه قبل أن يأخذ أخي ألأكبر الرخصة، كنت أعتقد أن شادي الذي ضاع، وريما – التي تغنّي لها فيروز في فيلم بنت الحارس- هم ابناها الوحيدان. لم أفهم كلمات أغانيه حينها، فقد كان أخي يكبرني بعشرة سنوات – فارق كبير لطفل بجيلي حينها، فارق يتقلّص مع امتداد العمر.
***
كبرت كثيرا مذ بعنا سيارتنا التي كسرت فيها سنّي، فبدأت مراهقتي، وتعرّفت على ما يسمّى بالجنس اللطيف ودخلت الجامعة، وكان زياد يذكّرني دائما بأغانيه العاطفيّة – إن صحّ التعبير- أنني لست وحيدا، لست وحيدا بقدر شعبيّة أغانيه. وقد كنت أتفاجأ كلّ مرّة من قوته على تبسيط أكثر تجارب الحياة تعقيدا.
***
كبرت كثيرا مذ بعنا سيارتنا التي كسرت فيها سنّي، وفهمت أن الأشرفية هي الحارة المسيحية في لبنان، وأن الغني لا يعطي الفقير حقًا، وتعرفت على زياد أكثر، وصرت أحاول أن أقرأ ما يكتب في جريدة الأخبار، رغم عدم فهمي للكثير من الجمل التي كان يكتبها، ربّما لأنني لست ضليعا بأمور لبنان أو لأنني لست مثقّفا بما فيه الكفاية لأفهم زياد كما كان سيقول لي البعض لو صارحتهم بذلك -ولكنّني لم أصارح أحدا بذلك قبل اليوم، لأنني قدّست زياد.
***
تقلّص فارق العشر سنوات بيني وبين أخي مذ سمعت زياد لأول مرّة، فتعرّفت على العديد من أنواع الموسيقى الشرقيه منها والغربية، وتعلّمت أن أفهم الموسيقى وأسمعها أكثر من مرّة إن لم تعجبني عند الاستماع الأول، ومع الوقت تعلمت التعامل مع الموسيقى دون تقديس، بل موضوعية تامة.
***
إنّ تقديس جمهور زياد لزياد يجعلني أفقد أعصابي كلّ مرّة من جديد، فيحكمون على الموسيقى حسب زياد، لا على زياد حسب الموسيقى، ويعرّفون الجاز حسب زياد لا زياد حسب الجاز، ويقدّرون الكلمات حسب زياد لا زياد حسب الكلمات.
يا أخي، ليس من الطبيعي أن تمرّ بكل التجارب التي كتب عنها زياد في أغانيه، لأنك ببساطه إنسان آخر، ولك كيانك الخاص وحياتك الخاصّة، وليس من المنطقي أن تستمرّ في ترقيع حياتك لتلائم كلمات زياد. ليس من الصّحي أن نرفض نقد زياد، لأن زياد ليس وديع الصّافي (هاي أكلت كمان كم مسبّة). لو أن زياد كان رافضًا لنقده لما كتب ما كتب، لو أن زياد كان مؤيّدا لتقديسه لترك الحزب الشّيوعي اللبناني المعروف بمواقفه النقدية في السياسة اللبنانية، مثلًا، ولكنّه ليس كذلك.
***
أعذروني، سأكفر مرّة أخرى وأصرّح برأيي أن هناك عازفي جاز يفوقون زياد مهارة، وهناك عازفي بيانو بشكل عام يفوقون زياد مهارة، وأحيانا أطرب على أنغام بيانو صديقي المجهول الذي يبلغ من العمر عشرين عامًا أكثر مما أطرب لعزف زياد. أعذروني، سأكفر مرّة أخرى وأصرح أنه برأيي هناك فلاسفة ساهموا للإنسانية أكثر مما ساهم زياد في تسجيلاته الإذاعية وكتاباته في الصحف. وأعرف أن زياد لا ينكر هذا الأمر تحديدًا.
***
كلّي أمل ألا تسيئوا الظّن فزياد مميّز بكيانه الخاص الذي يدمج بين الموسيقى، الفلسفة والحياة. زياد من أكثر الفنّانين قربا إلى قلبي، ولكنّه ليس الوحيد، وليس الأخير. زياد كتب الكثير، لحّن الكثير وجعل الكثيرين ينتظرون نبرة صوته الخشنه في عروضه، ولكنّ زياد – مثل الله – لا يجوز تقديسه لأن ذلك يضرّ به أولا، وبجمهوره آخيرًا.
موسيقى الجاز مش زياد ابتكرها - في عازفين غيره
(نشر أيضا في قدّيتا)
الغريب أن زياد نفسه،يكره ان يُقدس اسمه و فنه ،وهو كان ضد تأليه والدته الست فيروز...لكن ماذا تفعل بالشعب العنيد؟
ردحذفيبقى زياد اسماً فريداً دون أي شك
تحية لك